كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وكان مشهداً من مشاهد القيامة تشترك فيه الحواس والمشاعر الإنسانية، والمشاهد الكونية:
{فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر}.
فالبصر يخطف ويتقلب سريعاً سريعاً تقلب البرق وخطفه. والقمر يخسف ويطمس نوره. والشمس تقترن بالقمر بعد افتراق. ويختل نظامهما الفلكي المعهود، حيث ينفرط ذلك النظام الكوني الدقيق.. وفي وسط هذا الذعر والانقلاب، يتساءل الإنسان المرعوب: {أين المفر} ويبدو في سؤاله الارتياع والفزع، وكأنما ينظر في كل اتجاه، فإذا هو مسدود دونه، مأخوذ عليه!
ولا ملجأ ولا وقاية، ولا مفر من قهر الله وأخذه، والرجعة إليه، والمستقر عنده؛ ولا مستقر غيره:
{كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر}..
وما كان يرغب فيه الإنسان من المضي في الفجور بلا حساب ولا جزاء، لن يكون يومئذ، بل سيكون كل ما كسبه محسوباً، وسيذكر به إن كان نسيه، ويؤخذ به بعد أن يذكره ويراه حاضراً:
{ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر}..
بما قدمه من عمل قبل وفاته، وبما أخره وراءه من آثار هذا العمل خيراً كان أم شراً. فمن الأعمال ما يخلف وراءه آثاراً تضاف لصاحبها في ختام الحساب!
ومهما اعتذر الإنسان بشتى المعاذير عما وقع منه، فلن يقبل منها عذر، لأن نفسه موكولة إليه، وهو موكل بها، وعليه أن يهديها إلى الخير ويقودها. فإذا انتهى بها إلى الشر فهو مكلف بها وحجة عليها:
{بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره}..
ومما يلاحظ أن كل شيء سريع قصير: الفقر. والفواصل. والإيقاع الموسيقي. والمشاهد الخاطفة. وكذلك عملية الحساب: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} هكذا في سرعة وإجمال.. ذلك أنه رد على استطالة الأمد والاستخفاف بيوم الحساب!
ثم تجيء الآيات الأربع الخاصة بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن الوحي وتلقي هذا القرآن:
{لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه}..
وبالإضافة إلى ما قلناه في مقدمة السورة عن هذه الآيات، فإن الإيحاء الذي تتركه في النفس هو تكفل الله المطلق بشأن هذا القرآن: وحياً وحفظاً وجمعاً وبياناً؛ وإسناده إليه سبحانه وتعالى بكليته. ليس للرسول صلى الله عليه وسلم- من أمره إلا حمله وتبليغه. ثم لهفة الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة حرصه على استيعاب ما يوحى إليه؛ وأخذه مأخذ الجد الخالص، وخشيته أن ينسى منه عبارة أو كلمة، مما كان يدعوه إلى متابعة جبريل عليه السلام في التلاوة آية آية وكلمة كلمة يستوثق منها أن شيئاً لم يفته، ويثبت من حفظه له فيما بعد!
وتسجيل هذا الحادث في القرآن المتلو له قيمته في تعميق هذه الإيحاءات التي ذكرناها هنا وفي مقدمة السورة بهذا الخصوص.
ثم يمضي سياق السورة في عرض مشاهد القيامة وما يكون فيها من شأن النفس اللوامة، فيذكرهم بحقيقة نفوسهم وما يعتلج فيها من حب للدنيا وانشغال، ومن إهمال للآخرة وقلة احتفال؛ ويواجههم بموقفهم في الآخرة بعد هذا وما ينتهي إليه حالهم فيها. ويعرض لهم هذا الموقف في مشهد حي قوي الإيحاء عميق الإيقاع:
{كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة}..
وأول ما يلحظ من ناحية التناسق في السياق هو تسمية الدنيا بالعاجلة في هذا الموضع. ففضلا عن إيحاء اللفظ بقصر هذه الحياة وسرعة انقضائها وهو الإيحاء المقصود فإن هناك تناسقاً بين ظل اللفظ وظل الموقف السابق المعترض في السياق، وقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {لا تحرك به لسانك لتعجل به}.. فهذا التحريك وهذه العجلة هي أحد ظلال السمة البشرية في الحياة الدنيا.. وهو تناسق في الحس لطيف دقيق يلحظه التعبير القرآني في الطريق!
ثم نخلص إلى الموقف الذي يرسمه هذا النص القرآني الفريد:
{وجوه يؤمئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}..
إن هذا النص ليشير إشارة سريعة إلى حالة تعجز الكلمات عن تصويرها؛ كما يعجز الإدراك عن تصورها بكل حقيقتها. ذلك حين يعد الموعودين السعداء بحالة من السعادة لاتشبهها حالة. حتى لتتضاءل إلى جوارها الجنة بكل ما فيها من ألوان النعيم!
هذه الوجوه الناضرة.. نضرها أنها إلى ربها ناظرة..
إلى ربها..؟! فأي مستوى من الرفعة هذا؟ أي مستوى من السعادة؟
إن روح الإنسان لتستمتع أحياناً بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون أو النفس، تراها في الليلة القمراء. أو الليل الساجي. أو الفجر الوليد. أو الظل المديد. أو البحر العباب. أو الصحراء المنسابة. أو الروض البهيج. أو الطلعة البهية. أو القلب النبيل. أو الإيمان الواثق. أو الصبر الجميل.. إلى آخر مطالع الجمال في هذا الوجود.. فتغمرها النشوة، وتفيض بالسعادة، وترف بأجنحة من نور في عوالم مجنحة طليقة. وتتوارى عنها أشواك الحياة، وما فيها من ألم وقبح، وثقلة طين وعرامة لحم ودم، وصراع شهوات وأهواء..
فكيف؟ كيف بها وهي تنظر لا إلى جمال صنع الله ولكن إلى جمال ذات الله؟
ألا إنه مقام يحتاج أولاً إلى مد من الله. ويحتاج ثانياً إلى تثبيت من الله. ليملك الإنسان نفسه، فيثبت، ويستمتع بالسعادة، التي لا يحيط بها وصف، ولا يتصور حقيقتها إدراك!
{وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}..
ومالها لا تتنضر وهي إلى جمال ربها تنظر؟
إن الإنسان لينظر إلى شيء من صنع الله في الأرض.
من طلعة بهية، أو زهرة ندية، أو جناح رفاف، أو روح نبيل، أو فعل جميل. فإذا السعادة تفيض من قلبه على ملامحه، فيبدو فيها الوضاءة والنضارة. فكيف بها حين تنظر إلى جمال الكمال. مطلقاً من كل ما في الوجود من شواغل عن السعادة بالجمال؟ فما تبلغ الكينونة الإنسانية ذلك المقام، إلا وقد خلصت من كل شائبة تصدها عن بلوغ ذلك المرتقى الذي يعز على الخيال! كل شائبة لا فيما حولها فقط، ولكن فيها هي ذاتها من دواعي النقص والحاجة إلى شيء ما سوى النظر إلى الله..
فأما كيف تنظر؟ بأي جارحة تنظر؟ وبأي وسيلة تنظر؟.. فذلك حديث لا يخطر على قلب يمسه طائف من الفرح الذي يطلقه النص القرآني، في القلب المؤمن، والسعادة التي يفيضها على الروح، والتشوف والتطلع والانطلاق!
فما بال أناس يحرمون أرواحهم أن تعانق هذا النور الفائض بالفرح والسعادة؟ ويشغلونها بالجدل حول مطلق، لا تدركه العقول المقيدة بمألوفات العقل ومقرراته؟!
إن ارتقاء الكينونة الإنسانية وانطلاقها من قيود هذه الكينونة الأرضية المحدودة، هو فقط محط الرجاء في التقائها بالحقيقة الطليقة يومذاك. وقبل هذا الانطلاق سيعز عليها أن تتصور مجرد تصور كيف يكون ذلك اللقاء.
وإذن فقد كان جدلاً ضائعاً ذلك الجدل الطويل المديد الذي شغل به المعتزلة أنفسهم ومعارضيهم من أهل السنة والمتكلمين حول حقيقة النظر والرؤية في مثل ذلك المقام.
لقد كانوا يقيسون بمقاييس الأرض؛ ويتحدثون عن الإنسان المثقل بمقررات العقل في الأرض؛ ويتصورون الأمر بالمدارك المحدودة المجال.
إن مدلول الكلمات ذاته مقيد بما تدركه عقولنا وتصوراتنا المحدودة. فإذا انطلقت وتحررت من هذه التصورات فقد تتغير طبيعة الكلمات. فالكلمات ليست سوى رموز يختلف ما ترمز إليه بحسب التصورات الكامنة في مدارك الإنسان. فإذا تغيرت طاقته تغير معها رصيده من التصورات، وتغيرت معها طبيعة مدلول الكلمات. ونحن نتعامل في هذه الأرض بتلك الرموز على قدر حالنا! فما لنا نخوض في أمر لا يثبت لنا منه حتى مدلول الكلمات؟!
فلنتطلع إلى فيض السعادة الغامر الهادئ، وفيض الفرح المقدس الطهور، الذي ينطلق من مجرد تصورنا لحقيقة الموقف على قدر ما نملك. ولنشغل أرواحنا بالتطلع إلى هذا الفيض؛ فهذا التطلع ذاته نعمة. لا تفوقها إلا نعمة النظر إلى وجهه الكريم..
{ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة}.
وهي الوجوه الكالحة المتقبضة التعيسة، المحجوبة عن النظر والتطلع، بخطاياها وارتكاسها وكثافتها وانطماسها. وهي التي يشغلها ويحزنها ويخلع عليها البسر والكلوحة توقعها أن تحل بها الكارثة القاصمة للظهر، المحطمة للفقار.. الفاقرة. وهي من التوقع والتوجس في كرب وكلوحة وتقبض وتنغيص..
فهذه هي الآخرة التي يذرونها ويهملونها؛ ويتجهون إلى العاجلة يحبونها ويحفلونها. ووراءهم هذا اليوم الذي تختلف فيه المصائر والوجوه، هذا الاختلاف الشاسع البعيد!!! من وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة إلى وجوه يومئذ باسرة، تظن أن يفعل بها فاقرة!!!
وإذا كانت مشاهد القيامة.
إذا برق البصر، وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر، وقال الإنسان يومئذ أين المفر. ولا مفر. وإذا اختلفت المصائر والوجوه، ذلك الاختلاف الشاسع البعيد، فكانت وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة، ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة..
إذا كانت تلك المشاهد تستمد قوتها وإيقاعها في النفس، من قوة الحقيقة الكامنة فيها، وقوة الأداء القرآني الذي يشخصها ويحييها، فإن السورة بعد عرض تلك المشاهد تقرب وتقرب حتى تلمس حس المخاطبين بمشهد آخر حاضر واقع مكرور، لا تمر لحظة حتى يواجههم في هذه الأرض بقوته ووضوحه ووزنه الثقيل!
إنه مشهد الموت. الموت الذي ينتهي إليه كل حي، والذي لا يدفعه عن نفسه ولا عن غيره حي. الموت الذي يفرق الأحبة، ويمضي في طريقه لا يتوقف، ولا يتلفت، ولا يستجيب لصرخة ملهوف، ولا لحسرة مفارق، ولا لرغبة راغب ولا لخوف خائف! الموت الذي يصرع الجبابرة بنفس السهولة التي يصرع بها الأقزام، ويقهر بها المتسلطين كما يقهر المستضعفين سواء! الموت الذي لا حيلة للبشر فيه وهم مع هذا لا يتدبرون القوة القاهرة التي تجريه:
{كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راقٍ وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق}..
إنه مشهد الاحتضار، يواجههم به النص القرآني كأنه حاضر، وكأنه يخرج من ثنايا الألفاظ ويتحرك كما تخرج ملامح الصورة من خلال لمسات الريشة!
{كلا إذا بلغت التراقي}.. وحين تبلغ الروح التراقي يكون النزع الأخير، وتكون السكرات المذهلة، ويكون الكرب الذي تزوغ منه الأبصار.. ويتلفت الحاضرون حول المحتضر يتلمسون حيلة أو وسيلة لاستنقاذ الروح المكروب: {وقيل من راقٍ} لعل رُقية تفيد!.. وتلوَّى المكروب من السكرات والنزع.. {والتفت الساق بالساق}.. وبطلت كل حيلة، وعجزت كل وسيلة، وتبين الطريق الواحد الذي يساق إليه كل حي في نهاية المطاف: {إلى ربك يومئذ المساق}..
إن المشهد ليكاد يتحرك وينطق. وكل آية ترسم حركة. وكل فقرة تخرج لمحة. وحالة الاحتضار ترتسم ويرتسم معها الجزع والحيرة واللهفة ومواجهة الحقيقة القاسية المريرة، التي لا دافع لها ولا راد.. ثم تظهر النهاية التي لا مفر منها.. {إلى ربك يومئذ المساق}..
ويسدل الستار على المشهد الفاجع، وفي العين منه صورة، وفي الحس منه أثر، وعلى الجو كله وجوم صامت مرهوب.
وفي مواجهة المشهد المكروب الملهوف الجاد الواقع يعرض مشهد اللاهين المكذبين، الذين لا يستعدون بعمل ولا طاعة، بل يقدمون المعصية والتولي، في عبث ولهو، وفي اختيال بالمعصية والتولي:
{فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى}!..
وقد ورد أن هذه الآيات تعني شخصاً معيناً بالذات، قيل هو أبو جهل عمرو بن هشام.
وكان يجيء أحياناً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن. ثم يذهب عنه، فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدب ولا يخشى؛ ويؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول، ويصد عن سبيل الله.. ثم يذهب مختالاً بما يفعل، فخوراً بما ارتكب من الشر، كأنما فعل شيئاً يذكر..
والتعبير القرآني يتهكم به، ويسخر منه، ويثير السخرية كذلك، وهو يصور حركة اختياله بأنه {يتمطى} يمط في ظهره ويتعاجب تعاجباً ثقيلاً كريهاً!
وكم من أبي جهل في تاريخ الدعوة إلى الله، يسمع ويعرض، ويتفنن في الصد عن سبيل الله، والأذى للدعاة، ويمكر مكر السيئ، ويتولى وهو فخور بما أوقع من الشر والسوء، وبما أفسد في الأرض، وبما صد عن سبيل الله، وبما مكر لدينه وعقيدته وكاد!
والقرآن يواجه هذه الخيلاء الشريرة بالتهديد والوعيد:
{أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى}..
وهو تعبير اصطلاحي يتضمن التهديد والوعيد، وقد أمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم بخناق أبي جهل مرة، وهزه، وهو يقول له: {أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى}.. فقال عدو الله: أتوعدني يا محمد؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئاً. وإني لأعز من مشى بين جبليها!! فاخذه الله يوم بدر بيد المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم وبرب محمد القوي القهار المتكبر. ومن قبله قال فرعون لقومه: {ما علمت لكم من إله غيري} وقال: {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي} ثم أخذه الله كذلك.
وكم من أبي جهل في تاريخ الدعوات يعتز بعشيرته وبقوته وبسلطانه؛ ويحسبها شيئاً، وينسى الله وأخذه. حتى يأخذه أهون من بعوضة، وأحقر من ذبابة.. إنما هو الأجل الموعود لا يستقدم لحظة ولا يستأخر.
وفي النهاية يمس القلوب بحقيقة أخرى واقعية في حياتهم، لها دلالتها على تدبير الله وتقديره لحياة الإنسان. ولها دلالتها كذلك على النشأة الآخرة التي ينكرونها أشد الإنكار. ولا مفر من مواجهتها، ولا حيلة في دفع دلالتها:
{أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى}..
وهذا المقطع الأخير العميق الإيقاع، يشتمل على لفتات عميقة إلى حقائق كبيرة. ما كان المخاطبون بهذا القرآن يخطرونها على بالهم في ذلك الزمان. وأولى هذه اللفتات تلك اللفتة إلى التقدير والتدبير في حياة الإنسان: